لبنان وحالة الانفصال عن زمانه ومكانه
رئيسة قسم القانون الخاص في كلية الحقوق-الجامعة اللبنانية
في غضون محاولة الشعب اللبناني الانتفاض على واقعه المرير وتخطي مأساة انفجار ٤ آب المأساوي، انطلقت الحكومة الحالية في رحلةٍ سياسية عكسية مستنبطةً لها من حكومات الأصيلين، محظورات البيانات الوزارية والمقارابات المحاسبية للخطة الانقاذية الموعودة والتزمت نهجاً يتفشى خلفه مَرض الدولة المستعصي: غربتها في الزمان والمكان.
من أحدث ابتكارات حكومة ”معاً للإنقاذ“ تحضير المفاوضات مع صندوق النقد الدولي على قاعدة ودائع ”قبل وبعد ١٧ تشرين الأوّل ٢٠١٩“ ومشروع قانون كابيتال كونترول مسلوخ عنوةً عن بيئته الدستورية والقانونية، حيث حاولت في متنه إعادة تعريف مصطلحات معروفة أصلاً مثل، المصارف والودائع والعملات الأجنبية. أما الأسوأ من ذلك، هو تجاهل هذه السلطة تماماً للمفهوم التقني لقيود حركة رؤوس الأموال بالمعنى النقدي والمالي. قانون ”الكابيتال كونترول“ بأدبيات الحكومة الحالية سيولد ميتاً وسيصل فارغاً من مفعوله عند صندوق النقد الدولي لأنها تقدّمه في سياقٍ اقتصادي خاطئ، ولأن هذه الوصفة باتت منتهية الصلاحية لقطاع عليلٍ ينازع على فراش أزمة ماليّة مستعصية، ولأن هذا الدواء كان يصلح لما قبل الجائحة المصرفية أما الآن، بات وباء البنوك اللبنانية يتطلب حجراً قانونياً الزامياً.
يحجب صندوق النقد الدولي في أحدث تقرير له توقعاته عن لبنان بين عامي ٢٠٢٢-٢٠٢٦ بسبب عدم اليقين المفرط ويصنّفه ضمن فئة الدول الشديدة التأثر بالصراعات في منطقة الشرق الأوسط، أما في الموازاة، أقصى ما يشغل الحكومة إقرار قانون القيود على العمليّات المصرفية لإطلاق استنسابية البنوك الممتنعة نهائيا عن تنفيذ مواجباتها بإعادة المدخرات الفردية والاجتماعية والاستثمارية مقابل غض النظر عن تخصيص العملاء المميزين بتحويل أموالهم إلى حسابات شركات الأوف شور في بلدان الجنات الضريبية. أما الأخطر يبقى منع المودع اللبناني من حقه في استعمال جنى عمره حتى لتأمين الغذاء والدواء والتعليم بعد أن فقد قدرته الشرائية مع انهيار قيمة العملة الوطنية والتضخم الركودي.
ليس من المبكر الحديث عن تحوّل أزمة الفيروس التاجي إلى أزمة ائتمانية عالمية، ولكن لا يبدو أن صانعي السياسة الماليّة في لبنان متيقظين لمساوئ عدم التفاعل مع ذبذباتها. حيث في زمن إعلان طوارئ مالية داخل المؤسسات الدولية وعلى وقع استنفار إقليمي وحدها الحكومة اللبنانية تغرّد في فضاء المصالح الضيّقة وتتبجح بالتوافق على تحديد أرقام الخسائر المحاسبية دون تقدير آثار النكبة الاجتماعية، كما تتلهى في صياغة مشاريع قوانين تعفي القطاع المصرفي من مخالفاته بمفعول رجعي. ووسط إرباك أسواق النفط من تداعيات وباء كوفيد-١٩ واضطرابات الأسواق الثانوية، تجهد الحكومة من على كوكبها اللبناني، لتحصين المنظومة المالية عبر تشريعٍ مستوحى من مصالح طبقة سياسية غابرة. وبينما يتداعى محافظو البنوك المركزية على جميع الجبهات لمنع انهيار الأنظمة المالية للدول، يبدو أن السلطة التنفيذية منهمكة بالسعي لإقرار مشاريع قوانين مدموجةً بصلاحيات غير دستورية لحاكمية مصرفية، بدل مساءلتها ومحاسبتها. خطوات عشوائية تبقى منفصلة تماماً عن واقع الاقتصاد العالمي.
في ظلّ، توقعات مالية تنبئ بتهاوي هيكل دولة المهترئ الذي أقحم اللبنانيين في قلب أقسى الأزمات المالية في التاريخ المعاصر، ستكون القرارات الحكوميّة، بمصادرة أموال المودعين والإبقاء على قطاع مصرفي متورط في التلاعب بسيادة الدولة المتعثّرة وعاجز عن تغطية حجم انكشافه في أسواق المضاربة الماليّة، هي الأزمة الأخطر التي ستقضي على مستقبل أجيالٍ بأكملها.
يقول كزافيه ايمانيوللي، أحد مؤسسي أطباء بلا حدود الذي كلّف بمهمة الأعمال الإنسانية الطارئة في حكومتي آلان جوبيه، ”كل أزمة تصنع قادة، وهم دائماً، أولئك الذين يعرفون ما يجب فعله“. مقولةٌ قد تصح في أي وطنٍ إلا في لبنان، هذا الوطن السقيم الذي انهكته العديد من الأزمات لم يجد حتى اليوم، من يعرف ما يجب معرفته أو يفعل ما يلزم فعله. نعم، لبنان؛ وطن انقرض فيه جنس القادة لأن شعبه صنع له زعماء من جنس الآلهة.